بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب أوقاف المغاربة لعباد الهادي التازي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) صدق الله العظيم

أوقاف المغاربة في القدس

((بدت حرب القرم (Kirim) بين الثمانيين وروسيا عام 1856 في الواقع من القدس وفي كنيسة القيامة بالذات، فلقد إستعر التنافس بين الدول ذات الإمتياز على القدس بعد إنهيار الوجود المصري، وإدعت روسيا حماية طائفة الروم الارثوذوكس، وإدعت فرنسا حماية الكاثوليك، وإهتمت بريطانيا بالدفعات عن الذين إعتنقوا المذهب البروتيستاني وعن اليهود كذلك...

ومن هنا تأسست القنصليات، وتأرجحت الحكومة العثمانية في ميلها لهذا الفريق أو ذلك.

وفي سنة 1808 دمرت النار معظم كنيسة القيامة وسمح السلطان للأرثوذوكس بتعميرها فاهملوا بعض المعالم التي تركها الصليبيون في البناء، فاغضب ذلك روسيا التي حاولت بالتهويد، الحصول على حق حماية الأرثوذوكس ومصالحهم في القدس وسائر أنحاء السلطنة الثعمانية!

فلما رفضت تركيا ذلك بدات روسيا الحرب التي تسمى في التاريخ "حرب القرم".

وعلى قياس هذا نقول أن الحروب المتوالية بين العرب وإسرائيل بدأت في الواقع في القدس من منطقة أوقاف المغاربة وبالذات من حائط البراق الذي يتصل بمنازل المغاربة...

فماذا عن هذه الأوقاف؟ ذلك ما نحاول تقديمه في هذه الصفحات التي نقتبسها من كتابنا "تاريخ المغرب الدبلوماسي".

د. عبد الهادي التازي

إرتبط تاريخ المغربة بالقدس الشريف منذ اللحظات الاولى التي إعتنقوا فيها الإسلام كمذهب ولهذا فقد شدتهم إليه نفس الوشائج التي شدتهم إلى كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة، فكان جلها يمر بالشام عند مقفلة من الحج حتى ينعم برؤية مسرى النبي العربي ويحقق الأجر في الرحلة إلى المساجد الثلاثة...

عرج عليه عشرات الأعلام الأفاضل ممن كانوا نبراسا يهتدى بهم في الديار المغربية فكانوا يعطرون بذكره المجالس وكانوا يروون عن الأئمة الذين صادفوهم هناك من أمثال ابي بكر الطرطوشي وإبن الكازروني الذين إجتمعه بهما فخر المغرب القاضي ابو بكر بن العربي الذي رافق والده الإمام عبد الله في سفارته سنة 490 (1097) إلى المستظهر بالله العباسي من قبل يوسف بن تاشفين (1)، ومن امثال الشيخ سيدي صالح حرازم المتوفى بفاس أواسط القرن السادس ومن أمثال القاضي بدر الدين محمد بن إبراهيم بن سعد إبن جماعة الذي حضر مجلسه الرحالة المغربي النقاد العبدري 686 (1290-1291)، (2) وأمثال محمد بن سالم الغزي وعماد الدين النابلسي وشهاب الدين الطبري ومحمد بن مثبت الغرناطي ممن كانوا على صلة بالرحالة المغربي الشهير إبن بطوطة، ومن امثال ابي الحس الواسطي وأبي عبد الله محمد إبن سالم الكناني وأبي البركات زين الدين وعلي بن أيوب المقدسي وشمس الدين الخولاني ومحمد بن نباته الذين إتصلوا بالكاتب خالد البلوي، (3) وأمثال الشيخ لامقري التلمساني صاحب النفح الذي ترك هنا عددا من التلامذة (4).

لقد كانت الرحلة في سبيل العلم مما يفتخر به وكان من العبادات التقديرية التي تقال عن العلماء: "لقد سافر كثيرا وأخذ عن عدد من الشيوخ في البلاد النائية...".

ولم يكن هذا فقطهو الباعث للوجود المغربي في بيت المقدس، ولكن هناك سبباً آخر يتجلى في رغبة المغاربة الملحة للمشاركة في الجهاد دفعاعا عن هذه البقعة الطاهرة.

ولما كانت سمعة الأساطيل التي كان المغرب يتوفر عليها قد وصلت إلى الديار المشرقية وبخاصة أيام دولة الموحدين الذين أنشاوا لهم "دار الصنعة" المختصة بإنشاء الأساطيل البحرية والمراكب الجهادية، (5) وبما أن الفرنج ملكوا سواحل الشام وملكوا معها بيت المقدس، فقد صارعهم صلاح الدين الأيوبي وإفتتح البيت حوالي سنة 583هـ (1187-1188)م، وعندئد انقضت أمم النصرانية من كل جهة على سواحل الشام شأنها في المغرب عندما تحالفت على الإجهاز على الوجود الإسلامي بالأندلس...

لقد إعترضوا أسطول صلاح الدين في البحر ولم تتمكن أساطيل الإسكندرية آنذاك من صد الغزو الصليبي نظراً لضعفها وقلة عددها...

ومن هنا وردت فكرة الإستغاثة باسطول المغرب الذي كان يهيمن على مسالك البحر المتوسط والذي كان يخطط لفتح القسطنطينية العظمى قبل العثمانيي بقرنيي وربع القرن على ما ترويه المصادر التركية (6).

وكان أن بعث القائد صلاح الدين إلى السلطان يعقوب المنصور سنة 586هـ (1190-1191)م يطلب إعانته بالأساطيل لمنازلة عكا وصور طرابلس الشام بعد كسرة حطين وفتح بيت المقدس.

وقد أوفد على رأس هذه البعثة الهامة (7) قائد الجيش الأمير أبا الحرث عبد الرحمن بن منقد الشيزري (8) طالبا أن تحول القوات المغربية في البحر بين أساطيل الفرنج وبين امداد النصرانية بالشام من الجهات الاخرى.

وقد بعث صلاح الدين بهدية تشمل على مصحفين كريمين منسوبين ووزن مائة درهم من عطر البلسان، وعشرين رطلا من العود القماري وستماية مثقال من المسك والعنبر وخمسين قوسا عربية بأوتارها وعشرين من النصول الهندية مع عدة من السروج المثقلة.

وقد وصلت السفارة فعلا إلى الديار المغربية فاصدفت المنصور بالأندلس في عمية عسكرية لقمع (ابن الريق) وصد الإعتداءات التي أخذت تتوالى على المدن الأندلسية وجعل حد للزحف الصليبي الذي أخذ يستفحل بعد انكسار وبذة عام 567 (9).

وانتظر السفير ابن منقد بمدينة فاس عودة السلطان المنصور الذي طير إليه الخبر عن طريق الرقاصة المغاربة (10).

وقد كان يوم إستقبال الوفد يوما مشهودا بفاس العاصمة الإسلامية الأولى للدولة المغربية. هناك تسلم العاهل المغربي الرسالة الايوبية التي كانت إن إنشاء الأديب عبد الرحيم البيساني المعروف بالقاضي الفاضل.

لقد كانت ديباجة الكتاب "من الفقير إلى رحمة ربه يوسف بن أيوب، أما بعد فإن الغرب مستودع الأنوار وكنز دينار الشمس، ومصب أنهار النهار ومن جانبه يأتي سكون الليل... استصرخ الكفار بالكفار فأجابوهم رجالاً وفرساناً وشيباً وشباباً وزروافات ووحدانا وبرا وبحرا ومركبا وظهرا ومنهم ملك الألمان الذي خرج في جموع ملأت الفجاج... وربما وصل بهم إلى عكا ي البحر تهيبا أن يسلك البر... ولما كانت حضرة سلطان الإسلام وقائد المجاهدين إلى ديار السلام أولى من توجه إليه الإسلام بشكواه وبثه، واستعان به على حماية نسله وحرثه... كان المتوقع من تلك الدولة العالية والعزمة الغادية مع القدرة الوافية والهمة الهادية أن يمد غرب الإسلام المسملمين باكثر مما أمد به غرب الكفار الكافرين فيملأها عليهم جواري كالأعلام... وشواني كأنها الليالي مقلعة بالأيام، تطلع علينا معشر الإسلام آمالا وتطلع على الكفار آجالا... وقد سير لحصن مجلسه الأطهر ومحله الأور الأمير الأصيل سفير الملوك والسلاطين أبو الحزم عبد الرحمن ابن منقذ كتب الله سلامته...".

وكان السفير ابن منقذ مدح السلطان بقصيدة طويلة كذلك من أربعين بيتا كان من جملة أبياتها: