بسم الله الرحمن الرحيم

وثيقة جنيف وحائط البراق

بقلم بلال الحسن

شيء من التاريخ لفهم «وثيقة جنيف»

 

شيء من التاريخ يفيد في فهم بعض الأمور الراهنة، وهذا التاريخ يوجه إدانة أخرى إلى «وثيقة جنيف»، ويبرز عجزها عن تحقيق السلام الذي ادعت أنها تحققه، وهو تاريخ يتعلق بحائط البراق الذي تسميه إسرائيل حائط المبكى، وهو في الحالين الجدار الغربي للمسجد الأقصى.

ونذكر هنا أن هذه المسألة طرحت في قمة كامب ديفيد التي رعاها الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون وفشلت (في شهريوليو2000). طلب الإسرائيليون في تلك المفاوضات أن تكون لهم السيادة على حائط المبكى، وعلى الحي اليهودي، وعلى الحي الأرمني داخل المدينة القديمة، وطلب الإسرائيليون أيضا أن تكون لهم السيادة على المسجد الأقصى، وأن ينال الفلسطينيون حق الإدارة والإشراف فقط على شؤون المسجد. رفض الفلسطينيون هذا العرض الإسرائيلي، وطلبوا أن تكون لهم السيادة الكاملة على القدس الشرقية بما في ذلك المسجد الأقصى، وأن يكون للإسرائيليين حق الإشراف والإدارة فقط على حائط البراق (المبكى) وعلى الحي اليهودي. وكان هذا الخلاف أحد الأسباب الأساسية التي أدت إلى فشل مفاوضات كامب ديفيد. تقدم الرئيس كلينتون بعد ذلك بورقته الشهيرة التي صاغت قاعدة: ما هو يهودي لليهود وما هو فلسطيني للفلسطينيين، وغادر الرئاسة من دون أن ترى ورقته النور. والذي حصل في «وثيقة جنيف» أن الأشخاص الفلسطينيين المفاوضين وافقوا على مبدأ كلينتون، وتنازلوا عن الموقف الفلسطيني في كامب ديفيد الذي رعاه الرئيس ياسر عرفات، ووافقوا على منح الإسرائيليين ما يطالبون به في حائط البراق (المبكى) وفي الحي اليهودي.

ما هو حائط البراق؟ وما هو الحي اليهودي؟

يروي الدكتور عبد القادر البوخاري رئيس مصلحة التشريع في وزارة الأوقاف المغربية، أن كثيرا من المغاربة ذهبوا إلى فلسطين، وانضموا إلى قوات صلاح الدين الأيوبي وشاركوا في معركة تحرير القدس من الصليبيين، وبعد النصر عاد قسم منهم إلى المغرب، ورغب قسم آخر في الاستقرار في القدس، وأذن لهم صلاح الدين بذلك، وتم «وقف» الحارة الواقعة قرب الزاوية الجنوبية لحائط الحرم والتي اعتاد المغاربة النزول بها، لتكون مكان إقامتهم، وكان ذلك في عهد الملك الأفضل سنة 1100 بعد أن خلف والده صلاح الدين على دمشق والقدس. وبرز بعد ذلك اهتمام مغربي رسمي وشعبي بشراء الأملاك في القدس حسب قاعدة (الوقف)، وشمل ذلك العقارات المبنية، والعقارات غير المبنية، كما هو الشأن لقرية (عين كارم) الموقوفة بكاملها من طرف الشيخ أبو مدين الغوث، وتقدر مساحتها بخمسة عشر ألف هكتار، وقد كانت حتى حدود سنة 1948 من أولى القرى الزراعية التي تمون القدس بإنتاجها من الفواكه والخضر (تعمل إسرائيل الآن على مد المستوطنات إلى قرية عين كارم). وشمل الوقف المغربي عقارات مبنية أيضا، كما هو الشأن بالمكان المعروف بقنطرة أم البنات في باب السلسلة من طرف الشيخ أبو مدين، وكذا بالنسبة إلى الأملاك الموقوفة من طرف الشيخ عمر المصمودي بالمكان المعروف بحارة المغاربة.

قامت إسرائيل خلال عام 1948 باحتلال جانب هام من قرية عين كارم خارج اسوار القدس. ونظرا إلى أن المغرب كان آنذاك تحت الحماية، فقد قامت وزارة الخارجية الفرنسية سنة 1953 برفع دعوى ضد إسرائيل، طالبت فيها بالاعتراف رسميا بكون قرية عين كارم والأراضي التابعة لها، ممتلكات مغربية، كما طالبت برفع الحجز عنها، ودفع تعويض عن استغلالها. وقد ظلت هذه الدعوى قائمة بعد استقلال المغرب، إلى أن تلقت وزارة الخارجية المغربية سنة 1957 رسالة من وزارة الخارجية الفرنسية، تخبرها فيها بقبول اسرائيل دفع تعويض سنوي عن استغلال عين كارم، ولكن المغرب رفض الدخول في أي تعامل مع اسرائيل بخصوص هذه القضية حتى لا يفهم منه الاعتراف ولو ضمنيا. كما اتخذت تونس نفس الوقف. وقد ترتب عن احتلال قرية عين كارم أن أصبح ريع الأملاك الموقوفة غير كاف، واصبح المستفيدون منها البالغ عددهم ألفي نسمة في حالة من البؤس والتشرد، خصوصا بعد أن اعتبرتهم المنظمات الإنسانية الدولية غير فلسطينيين (اي أصبحوا إسرائيليين)، وحرمتهم بالتالي من المساعدات الدولية المقدمة لباقي الفلسطينيين (من خلال الأونروا). وقد قدم المغرب إعانات مالية لهم بين سنتي1952 و 1955، كما استمر لاحقا في تقديمها بصفة منتظمة.

وبعد أن احتلت إسرائيل كامل فلسطين عام 1967، كان من أول الإجراءات التي قامت بها، مصادرة حي المغاربة المجاور لحائط البراق في القدس، بحجة إيجاد ساحة أمام حائط المبكى، وقامت بنسف الحي يوم 1967/6/11 مهدمة 138 بناية اثرية من ضمنها جامع البراق وزاويته، وطردت سكانه البالغ عددهم آنذاك 635 نسمة.

وفي عام 1968 اصدرت إسرائيل قرارا يرمي إلى استملاك عدد من الأراضي والعقارات، من ضمنها أملاك تابعة لوقف الشيخ أبي مدين. رفض المغرب هذه الإجراءات، وقدم مذكرة احتجاج إلى إسرائيل، ورفض الدخول معها في مناقشات بخصوص التعويض، كما رفض اقتراحا إسرائيليا بمبادلة زاوية أبي مدين ومسجدها بعقارات إسرائيلية في حي الواد.

وكان قد سبق ذلك عام 1929، اندلاع ما سمي بـ«ثورة البراق»، والتي سقط فيها عدد من القتلى والجرحى من الفلسطينيين واليهود، وتشكلت على اثر ذلك لجنة بريطانية دعيت «لجنة شو» للتحقيق في حوادث البراق، وانبثقت عن هذه اللجنة بقرار منها، لجنة دولية أسندت إليها مهمة تقرير الحقائق والمطالب المتعلقة بحائط البراق، وقد شهد أمام اللجنة الدولية هذه، فلسطينيون ولبنانيون وعراقيون ومصريون وسوريون. انتهت اللجنة من وضع تقريرها في مطلع ديسمبر (كانون الأول) 1930، وخلصت فيه إلى استنتاجات حازت موافقة الحكومة البريطانية وعصبة الأمم معا، وأصبح التقرير بذلك وثيقة دولية هامة تثبت حق الشعب الفلسطيني في حائط البراق، وأهم هذه الاستنتاجات ما ورد في الفقرة الأولى من التقرير، وهي تقول «تعود ملكية الحائط الغربي إلى المسلمين وحدهم، ولهم وحدهم الحق العيني فيه لأنه يؤلف جزءا لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف التي هي من أملاك الوقف. وتعود إليهم ايضا ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط وامام المحلة المعروفة بحارة المغاربة المقابلة للحائط، لكون الرصيف موقوفا حسب أحكام الشرع الإسلامي لجهات البر والخير».

وجاء في الفقرة الثالثة من التقرير ما يلي «لليهود حرية السلوك إلى الحائط الغربي لإقامة التضرعات في جميع الأوقات».

تستدعي هذه الوقائع التاريخية بضع ملاحظات:

ملاحظة أولى: هل يفهم الآن، الفلسطينيون الذين وقعوا على وثيقة جنيف، لماذا عارض عرفات في كامب ديفيد المشروع الإسرائيلي، ولماذا تحفظ على ورقة كلينتون، متمسكا بالسيادة الفلسطينية على حائط المبكى، وقابلا فقط بحق الإدارة الإسرائيلية للعبادة من حوله؟

ملاحظة ثانية : هل فكر الذين وقعوا على الوثيقة بضرورة استشارة المسؤولين المغاربة قبل التوقيع؟ هل سألوهم عن وقف حي المغاربة وعن الأوقاف المغربية الأخرى؟

ملاحظة ثالثة:هل فهم الذين وقعوا على وثيقة جنيف، لماذا ترفض إسرائيل دائما وأبدا الاحتكام إلى قرارات الأمم المتحدة وقرارات الشرعية الدولية؟

وثمة ملاحظات أخرى كثيرة إلا لمن في سمعه وقر.

Belal2001@club-Internet.fr